الجمعة، 18 أكتوبر 2013

في احد ازقّة باريس.

بيدار هو طفل فضوليّ جدا. نشأ في اسرة من المثقفين. اللذين هاجروا منذ عشرات السنين الى اوروبا. لكن اللغة العربية لم تزل تسري في عروقهم. يشربونها في كل يوم. و يقتتاتون منها عيشهم. كان بيدار مولعا بالقصص المصورة. و الروايات و القصص الفلسفية القصيرة. كان طفلا شقيا يبحث عن الحقيقة في كل شئ. يتسائل .. "لماذا يستطيع سوبرمان الطيران؟ بينما لا استطيع انا؟ .. ربما لهذا جزء من اصوله الفضائية؟ لم هو في شكل بشر اذاً؟" هكذا كان فلسفاته الطفولية. دوما يفكر و يبحث. يعشق العزلة في كوخه الصغير المبنيّ في احدى اشجار حديقة منزله. يجلس هناك ليقرأ و يطلب من الجميع الصمت في معظم الاحيان. كان مجنونا بألالعاب الصبيانية .. حيث يجري و يختبئ وراء الاشجار و يصنع من اغصانها مسدسا. ليوهم عقله الصغير بأنه قوي. مطلقا الرصاص بفمه "بوف بوف!". ثم يضحك. و يستمتع الصبية من حوله. كانت طفولته رائعة جدا. ترعرع بيدار في فرنسا. كبُر في احياء باريس. بالنسبة لشخص يكتب في قاع تلك المدينة الاسمنتية. كان اشبه بالفردوس. كانت باريس في حينها موطن الثقافات. و اكتظاظ الشعراء و الكتّاب و الادباء. تلك المدينة المليئة بالحانات و المقاهي. و النازيين اللذين يعتبرون انفسهم افضل الجماعات حينها و هم اكثرها تطرفا. و عن الجماعات الدينية التي تتجادل في قضايا الوجود الكبرى و الخالق و الحياة ما بعد الموت. و بين هطرقات العلم الحديث. و الثورة الفلسفية. و ظهور اعداد كبيرة من المفكرين و العلماء. كان بيدار يكتب في زمن لا زال فيه عبق القنابل النووية يلوح في الهواء. و حديث العالم عن مُدن كانت و ليست هنا الآن. و عبقرية الانسان في الوصول لأقصى مراحل الوحشية. كانت بقايا الحرب العالمية الثانية تملأ رأسه. و جيبه مكتض بأعقاب السجائر التي لا يحتمل عدها.  قلبه يدمع لعرب مستعبَدين. كان بيدار يعشق الوحدة الخلّاقة. التي تدفعه للكتابة و التدخين. يعيش بين الاسودين. يدخن القهوة و يحتسي السجائر الرديئة. يسخر من النظام الرأسمالي بطريقة جذابة. يندد بالاشتراكية. و يكره ان يعيش المجتمع في دائرة منصرفاته. لكن كانت له فلسفته الخاصة به. يمجّد بيئته. يعتقد انه يجب ان يكون مناسبا بالنسبة للأشياء من حوله. فما حوله يناسبه. كنوع من العدل مثلاً. كانت تجتذبه كرة القدم. و السياسيين الفاسدين ايضاً. يكتب لعشيقة غير موجودة. ثم ينظر من خلال نافذته التي تطل على احد ازقة باريس. فيرى الكادحين. و يتأمل .. اعتزل بيدار في غرفته مدة طويلة يكتب فقط. يكتب عن كل ما بدر في ذهنة. يكتب عن العالم حينها و افكاره السياسية. و كيف ان امريكا *بنت ستين كلب* . يكتب عن الاسلام و كيف انه الحل. هو فقط يكتب. بطقوس كتابية جميلة جدا. كالنبيذ و الشموع و الجو الشاعري. انهى بيدار كتابه. و عزم على ان يجعله من مؤلف مجهول. ابتعادا عن الشهرة و ذاك العالم البرجوازي. لم يشأ ان يكون عاهرة. يكتب من اجل الكادحين. ثم يتخلى عنهم! لا.
في احد الايام استيقظ بيدار و هو في احد غرف الطوارئ. فاقدا للذاكرة. لا يعلم اين هو او من هو! فقط اخبروه انه وجد مغشيا عليه. بعد ان اصدمت به احدى حافلات النقل. و أصيب بارتجاج في المخ. خرج بيدار من المشفى كالطفل الوليد. يرى العالم بعيون الرضا. يعتبره كمكان جميل. وضع يديه في جيبه و اصبح يتمشى في ازقة باريس. و بعد عدة ليالي من التشرد و الجوع و الفقر. و البرد اللذي يجلد ظهرة بسيطان نسيمه. قرر ان يستقل القطار عله يجد الفرج. وصل الى احد ضواحي باريس. و في محطة القطار وجد رجلا يحمل لافته. كتب فيها "نبحث عن عمال. للعمل في منجم فحم. بأجور جيدة". هرع بيدار اليه جاريا. و اخبره انه يود العمل معهم. وصل الى مكان العمل. كان المنجم داخل جبل عظيم. يحجب الشمس بظله. ارتص العمال كالسجناء امام المنجم. ثم انصرفوا الى اعمالهم. كانوا يعملون اثنا عشرة ساعة في اليوم. و يتناولون طعامهم في ثكناتهم. مقسمين على غرف لشخصين. رفيق بيدار في الغرفة يدعى اديتي. افريقي الاصل. يتحدث العربية و يتفنن فيها. ذو جسمة بنيانية قوية جدا .. كان بيدار ينعته ب "ابن السوداء".  يتسامران اخر الليل عن شقاء الحياة. وسبب عملهما هناك. و يحكي له اديتي عن عائلته و حياته و معاناته. و يصمت بيدار. لأحساسه بعجزه عن التذكر. فيشعل سجارة و يتأمل الكون الفسيح و يكتب. بيدار يأخذ حيزه من الغرفة و يكتب. بينما اديتي هناك يقرأ. استمر الحال عدة ليالي. بعدها نادي بيدار .. "يا ابن السوداء .. ماذا تقرأ؟" .. فأجابه "خذ .. اقرأ بنفسك" .. و اعطاه الكتاب. قرأ بيدار اول صفحة و كأنه يكلم نفسه. ذاك الكاتب يكتب عن افكاره. كأنه آناه المسروق في جسد آخر. سأل بفزع "يا ابن السوداء .. يا رجل .. من كتب هذا؟" .. فقال "لا ادري .. لكني سأموت بقلب هادئ ان قابلته". استمر بيدار بالقراءة حتى كاد ينهي الكتاب. و في آخر فصل .. انتفض بيدار. و اصبح يتذكر ماضيه شيئا فشيئاً. هو من كتب الكتاب. و هو ذاك الكاتب المتغطرس الجذاب. اللذي ابت نفسه ان تشتهر ببعض حروف تعبر عن واقع قاسٍ. هو ذاك الكادح العربي. الممزق على ازقة باريس. المسلم. صرخ *يااااااه*. من انا؟. استيقظ اديتي على صراخه. "يا رجل .. ما بك؟" .. فرد "انا بيدار كاتب هذا الكتاب" .. قال اديتي : "لا تمازحني .. غدا سنعمل حتى وقت متأخر .. انا مرهق جدا." .. فصرخ بيدار "انا هو .. اقسم بالرب اني هو ." ..فأعطاه اديتي تلك النظرة الساخرة و قال "و كيف علِمت؟" .. فأمسك بيدار بدفتر مذكراته و اخبره انه كان يقتبس عبارات نفسه طوال هذه المدّة.! .. ثم قال "انا عربي .. ترعرعت في باريس .. امي عربية و ابي ايضا. كنت فاقدا للذاكرة و الآن استعدتها! يااه يا رجل! انا كاتب حقيقي .. لدي كتاب .. انا بيدار .. المجد لي .. انا كادح"
فرح الزنجي و قال "انا احلم بلقائك و انت قربي ههههه .. تعال يا مجنون الالفاظ و احتضنّي".

في صباح اليوم التالي .. خرج بيدار من المنجم .. متجها نحو باريس .. عندها عاد للكتابة مجددا .. يستمتع بالجلوس على مقاهيها و ينعت الفلاسفة بالعهر ليتناقش معهم. يدخن سجائره الرديئة و يتنمر على الرأسماليين و يطلق الدعابات فيهم .. عاد الى غرفته المطلة على ازقة الكادحين ..  عاد لبيئته التي يتناسق معها .. تلك الاجواء الشاعرية .. عاد بيدار للكتابة هذا الاهم .. عاد للكتابة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق