الخميس، 15 يناير 2015

شيءٌ ما عجزتُ عن تسميته.

كانت حبيبتي نائمة. و كانت فكرة نومها بالنسبة لي فكرة وديعة و هادئة. فعلى الأقل أنا مطمئن. لا أحد هناك ليُضايقها. ولا هي تشعر بشعور سيّء. هي فقط نائمة. بسلام. بعيداً عن العالم المخيف هذا. و ربما هي تحلُم بك. تراك في نومها. تتخيّلك. و تتحدّث إليك. تعيشُ معك أجمل قصصها. تنهال عليك بالقبلات مرّة. و تختبيء بين أحضانك مرة. تتلوا عليك قصائدها الطويلة. و تبكي بين يديك و تضحك. تبكي حزينة، على أيام مضت. و تضحك فرحاً، على أعوام، و عقود، و قرون ستأتي. ستأتي و أنتما معاً. تقتسمان الفرح و تلعنان الوحدة.
..

و بينما كانت حبيبتي نائمة. في أطهر بقاع العالم. كنت أنا هُنا. جالس على عتبة منزلنا. أُحارب البرد الجاف. و بكامل نصفي أكتب. أكتب.. و أمسح. أكتب كلمات مبعثرة. جمل. و عبارات. أظنّها ستتشكّل يوماً ما لتكوّن شعور. يصفُ لحظة محددة كنت أنا في حاجة لحفظها على شكل جملة تصف شعوري في تلك اللحظة بدقّة. لآتي يوماً و أقرأ. أضحك و أبكي. أستغرب أحياناً. و استنكر على نفسي. أتعجّب.. كم كنت سخيفاً يا أنا. أتسائل.. هل انا حقاً بهذا السوء و القسوة؟ استعرُض حياتي المكونة من لحظات قليلة جميلة. سبق و أن كتبت عنها. فأنا من نوع الأشخاص الذين يحبّون أن "يعيشوا" اللحظة. أكثر من "توثيقها" لتكون ذكرى. ذكرى جميلة قابلة للتذكّر من حين لآخر.
..

على العموم. الكتابة كانت كلعنة. لعنة جميلة جداً. كجلّاد يضرب بسوطه. يجلدك على ظهرك. ينتزع جلدك و لحمك. و أنت متلذّذ. بكل هذه الوحشية و الألم! بالنسبة لشخص لم يشعر بشيء منذ آلف عام أو أكثر.. مجرّد الشعور. الشعور الخالص بالألم سيكون جميلاً جداً. سيكون و كأنه ولد من جديد. كانت الكتابة كذلك. كانت الكتابة بداية كل شيء. كل ما كان عليك فعله هو أن تختار ورقة بيضاء. و تكتب.. عن الماضي. عن الحاضر. عن الحيارى الذين بحاجة لترجمة مشاعرهم. عن السكارى في الحانات. عن الثوّار الذي تعبوا من الهتاف للوطن. كان يجب أن تكتب، عن القهوة و عن حبيبتك. عن الأغاني الشعبية، و عن رداءة الحياة في وطن كهذا. كان يجب أن تكتب، لتُشبع الفراغ الذي بداخلك. و لتُرتب كمية الفوضى الهائلة التي في رأسك. تكتب لتنتزع شكوكك. تكتب لتسمو بفكرة. تكتب لتُمجّد أمرأة. تكتب لتُحيي شعباً و تُخلّد ثقافة. تكتب لأنك هشّ. لأنك مضطرب. تكتب لكي لا تقتُل أحداً. و أحياناً تكتب.. لكي لا تنتحر.
..

أنا. و عن نفسي أتحدَّث. كنت أكتب لأني متفائل، متفائل بغد أفضل. و بحياة جيّدة. و بواقع نعيشه لا نتعايش معه. واقع يحترم الإنسان لكونه إنسان. فقط. أنا متفائل. ليس لكوني على سطح هذا العالم الرأسمالي البشع. و لا لكوني في هذا البلد الظالم واليه و مواليه. و لا لأنني في قاع هذه المدينة الأسمنتية. هُنا حيث لا يسمعُنا أحد. نَحنُ هنا نحتضر يا رفاق. أنا متفائل. لأن الحياة جميلة بالرفقة الجيدة. و بالقليلين الذين يهتمّون لأمرك حقاً. للذين يرونك كما أنت. مهما فعلت. الحياة جميلة بالذين يطلبون وصالك مهما انقطعت. بالذين يبحثون عنك مهما تواريت عنهم. الحياة ممتعة مع الأشخاص الذين يُراعون غرابتك. و تُساورهم نفس شكوكك. الأشخاص الذين يُنصتون الى حديثك. يهمهم رأيك. تعجبهم طريقة تفكيرك. الأشخاص الذين يوجهونك. للحياة. و غيرهم من العامّة. الأشخاص بنفس الإنطباعات. بنفس الأفكار. بنفس السذاجة و الملل التي أصبح غالباً في البشر. و انا شخصٌ لا يعجبه التكرار و يكره الأشياء المتوقّعة مسبقاً. لا يجذبني القطيع. بقدر انجذابي للفرّد الذي قرر أن يتمرّد على الجميع. سواء أكان محقاً في رأيه أو مخطئاً. فقرار الابتعاد في حد ذاته كان يشكّل مشكلة. يستحق من تحمّل تبعاتها احترامي.
..

يُسعدني جداً أني ابتعدت، يسُعدني أكثر أني لم أكن وحيداً. حتى في عُزلتي، كانت هُناك إحداهن - يتعذّر علي ذكر اسمها لأسباب خاصة، مع أنني كنت أحب ان اصرخ بحبي لها في كل مكان - المهم أنها كانت في كل مرة كانت تقول "أحبك". كنت أشعر بها و كأنها أول مرّة. جسمي يرتعش. عيناي تتّسع. أنفاسي تتقطّع. و كأن عاصفة ما ضربت بداخلي. كأن الجليد بدأ ينهمر في الصحراء. كانت الكلمة تخرج من فمها و تنغرس في قلبي كسهم. أُعاني الكثير لإخراجه. قبل أن تقولها مرّة أخرى. محدثة نفس الضرر على قلبي أو أكثر. و أنا أحبُّها جداً. أحبها كضرورة، كالهواء الذي أتنفّسه. أحبّها كرغبة، كرغبتي في أن أكون في الجنة. أحبُّها كفكرة، فكرة الوجود و الخلود و العدم. أحبُّها كشيء غير قابل للنقاش. أحبُّها بكل ذرة حب موجودة على هذا العالم. أحبُّها بكل ما امتلك من رغبة و شعور و إعجاب و فخر و رضا. أحبُّها بشكل يتعدّى الحدود. بشكل لا يوصف. أحبُّها بعدد الدمعات التي ذرفتها. حبيبتي الضعيفة و الهشّة جداً. أحبُّها بعدد المرات التي قررتُ فيها أن اترك الكتابة. و ان أجد شيئاً جديداً. يجذبني. يحتوي شغفي. و يبعث الحياة فيني على شكل دهشة. لكنّي و في كل مرّة كنت أحاول الهرب، كنت أستيقظ في الصباح الباكر، أرتدي قميصي الأزرق المفضّل، و ربطة العنق الحمراء، و أمشّط شعري. في محاولة لأن اكون كالبقية. في محاولة للإندماج. أرتدي الابتسامات الكاذبة في وجهي. و أُصافح.. مع أنني كنت أغضب جداً كلما صافحت شخصاً لا أعرفه، أو دون سبب مقنع. عموماً.. كنت أخرج من عزلتي، الى مكان لم و لن اعتد عليه ابداً. أخرُج.. لأُقابل بشراً حمقى يتحدّثون عن أشياء لا يعلمون ما معناها. أخرُج لأصرُخ في وجه كل من يقابلني او يتحدث معي. في وجه اي شخص يُجادلني. آسف! كُنت حاد الطباع قليلاً فيما يتعلّق بالنقاشات. تعجبني سياسة الإختزال و التحديد. و الإبتعاد عن شخصنة الأمور و نسبتها لشيء معين أو تفسيرها بصورة غير مقصودة. يعجبونني الذين يتحدثّون بأريحية عن الأشياء التي تروقهم و يفضلونها على غيرها، الذين لا يدّعون، و لا يحاولون ان يكونوا الا ما هم عليه. و الأفضل على الإطلاق الغرباء الذين لا تعرفهم و لا يعرفونك. الذين قد تقول لهم كل ما يخطر على بالك. و يقابلوك هم برأي موضوعيّ. يتعدّى حدود دينك و وطنك و انتمائك. رأي انت ملزم به لأنسانيته في المقام الأول. و لأنه يعمل لمصلحة البشرية ثانياً. المثقفين الممتلئة بهم الهوامش في بلادي. المثقفين المنتشرين في المقاهي الشعبية، "بائعات الشاي". المنتشرين في الحانات. الحانات الشعبية ايضاً، "بائعات الأمل". فالحقيقة و مهما كانت لن تكون بين شفتي غنيّ قرأ كتاباً و هو مستلق في سريره الحريري. الحقيقة بين شفتي فقير تعب منه التعب. كان يعمل طوال النهار أعمال شاقة. ليجمع مالاً يشتري به كتاباً يتحدّث عن الثورة. كتاباً كتبه لينين. كتاباً يفتح به أُفقاً. كتاباً لا يستطيع عقله العامل استيعابه الا بعد ثلاث كؤوس أمل، و كأس قهوة. ثم سيجارة..
..

ثم يبدأ بعدها بإخبار أصدقائه السكّيرين عن ديستويفسكي. و كيف انه مجنون. مجنون و وغد و وقح و مهووس بطريقة جميلة جداً. كان هذا "الأحدهم"، "المهمّش"، "السكران"، "صديقي"، جعلته صديقي مع انه مجرّد خيال ابتدعته في رأسي، المهم.. أنه كان يحب روسيا، يعشق فكرة البرد القارس، يتلذذ بالفودكا الروسية و كأنها ماء زمزم. قرأ كثيراً عن الطواغيت في ذاك الجزء البعيد من العالم. و كيف هم قساة و ملاعين. قرأ عن الإشتراكية كفكرة. و كسياسة دولة. فهم كل شيء. كانت روسيا بالنسبة اليه كالحلم. يهلوس بها. و يتحدّث عنها. زارها في اكثر من مناسبة. آخرها عندما استلم علاوة العيد. كان يزورها بالكتب. يراها بأعين الذين رأوها و كتبوا عنها. على أمل أن يكونوا قد وصفوها بدقة. و بالشكل الذي قد يليق بها. و بعظمتها في عينيه. ينتظر المناسبات ليحصل على علاوة يسيرة. يحصل بها على اجمل اجازة و رحلة. رحلة على شكل كتاب.
..

هناك تعليق واحد:

  1. سلمت أناملك والله ! على الرغم من الالم ووجع القلب الذي عشناه اثناء قراءة تحفتك هذه، ولكن شكرا لمنحنا لذة قرائتها .. ممتعه جدا !

    ردحذف